للأسف لا يوجد تعريف عالمي محدد معتد به للهندسة الكيميائية حتى الآن و ذلك لأنها تحوي مجالات كثيرة لا يقل أحدها أهميةً عن الآخر. فبدلاً من وضع تعريف بسيط غير شامل دعنا نأخذ نظرة أدق على ما يقوم به المهندسون الكيميائيون بعد تخرجهم.
جمع وصياغة أولية: مهندس / نور الدين إبراهيم إسماعيل
جمع وصياغة أولية: مهندس / نور الدين إبراهيم إسماعيل

للأسف لا يوجد تعريف عالمي محدد معتد به للهندسة الكيميائية حتى الآن و ذلك لأنها تحوي مجالات كثيرة لا يقل أحدها أهميةً عن الآخر. فبدلاً من وضع تعريف بسيط غير شامل دعنا نأخذ نظرة أدق على ما يقوم به المهندسون الكيميائيون بعد تخرجهم.
في مايو الماضى، باحدى كبرى الجامعات، انهى خريجو السنة الأخيرة للهندسة الكيميائية اختباراتهم النهائية، حضروا مراسم تخرجهم، ألقوا قبعاتهم عالياً، ودَعوا بعضهم البعض وسط وعود بالبقاء على اتصال، و انطلقوا إلى حياة جديدة في أماكن و وظائف مختلفة.
ذهب العديد منهم للعمل في شركات خاصة بتصنيع كيماويات معينة مثل الصناعات الدوائية، الدهانات و الأصباغ، و مستحضرات التجميل، و غيرها الكثير. اعتمدت هذه الشركات سابقاً على خريجي كليات العلوم قسم الكيمياء في تصميم و تشغيل عمليات الانتاج لديهم، و لأنهم راغبون في تصدر المنافسة بينهم و بين الشركات الأخرى كان لزاماً عليهم تعيين المهندسين الكيميائيين لأنهم على دراسة و علم بتقنيات الخلط و انتقال الحرارة و التحكم في درجات حرارة الخزانات و المفاعلات و مستوى ارتفاع السوائل فيها و التحكم في الانبعاثات الضارة الملوثة للبيئة على عكس الكيميائيين.
ذهب البعض للعمل في شركات خاصة بتصنيع دوائر أشباه الموصلات المتكاملة ، فمن مراحل الإنتاج الحرجة تغطية رقائق السيلكون بطبقات دقيقة جداً من السيليكون الذي يحتوي على المواد الشبه موصلة بترسيب الابخرة الكيميائية حيث أن هذه العملية تتم بتفاعل يحدث في الحالة الغازية و من ثم يترسب الناتج على رقائق السيليكون، لذلك يتم الاستعانة بالمهندسين الكيميائيين لتحديد التفاعل و الظروف الأنسب له التي تضمن ترسيب الطبقات بالمواصفات المطلوبة معتمدين على دراستهم لتصميم المفاعلات و الاشراف على العملية ككل و تطويرها.
اتجه البعض لاستكمال دراسته لكن في مجالات أخرى كالتكنولوجيا الحيوية(biotechnology) و علم الأحياء المجهرية(microbiology) وعملوا بشركات صغيرة لكن سريعة النمو تعمل في تلك المجالات، على سبيل المثال عمل أحدهم كمصمم لعملية صناعية دوائية تتضمن انتاج مركبات كيميائية حيوية تعمل على زيادة معدل التفاعل بشكل كبير في حين أن التفاعل يتم ببطء شديد في غيابها(immobilized enzymes)، وهناك أعمال أخرى كالهندسة الجينية حيث يتم تصنيع حمض نووي(recombinant DNA) و استخدامه لانتاج بعض البروتينات و الكيماويات الدوائية و الزراعية التي يصعب الحصول عليها بطرق أخرى.
عمل آخرون في شركات خاصة بصناعة البوليمر (المواد البلاستيكية) ، و منها صناعة الأغشية الخاصة بعمليات تحلية مياه البحر (حيث تعبر المياه النقية خلالها و يتم حجز الأملاح في الجهة الأخرى) و كذلك عمليات فصل الغازات (حيث يتم فصل غاز الهيدروجين عن الهيدروكربونات أو العكس) و صناعة أغشية خاصة يتم استخدامها في الكلى الصناعية حيث تفصل مخلفات عملية الأيض من الدم و تنقيه ثم يعود الدم مرة أخرى لجسم المريض.
أربع خريجين بعد دراستهم لعدة مقررات في التكنولوجيا الحيوية(biotechnology) التحقوا بكلية الطب، و كانت فرصهم في القبول أكبر من غيرهم، خريج آخر التحق بكلية الحقوق و ثلاثة آخرون حصلوا على درجة الماجستير في الأعمال التجارية و من ثم ادارة المشروعات المتعلقة بالصناعات الكيميائية.
خريجة منهم تطوعت في منظمة (Peace Corp) في مهمة لسنتين تساعد السكان المحليين في شرق أفريقيا في تطوير أنظمة الصرف الصحي كما أنها عملت كمعلمة للغة الانجليزية و العلوم بإحدى المدارس الريفية هناك. و تعتزم عند العودة للديار أن تحصل على درجة الدكتوراة و تنضم لهيئة التدريس بالجامعة، تنشر كتابها الذي تكتبه عن التطبيقات البيئية لمبادئ الهندسة الكيميائية، لا تمل و لا تكل حتى تحصل على الأستاذية(full professor) ثم تستقيل بعد عشر سنوات للترشح في انتخابات مجلس الشيوخ الأمريكي و تفوز بفترتين ثم في نهاية المطاف تترأس مؤسسة خاصة ضخمة و ناجحة للغاية تم تكريسها لتحسين التعليم في المجتمعات الضعيفة اقتصادياً. كما أكدت أن السر وراء نجاحها هو ما تعلمته من مهارات حل المشكلات أثناء دراستها بالكلية قبل التخرج.
سيمر هؤلاء الخريجون في حياتهم المهنية بمراحل مختلفة، سيعملون في مختبرات للقيام بأبحاث في مجالات عدة كيميائية و حيوية و طبية و علوم المواد(material science) لتطوير المنتجات و تحسين جودتها، أو تصميم عمليات صناعية انتاجية و التحكم بها باستخدام الحاسب الآلي، أو إدارة موقع انشائي لمصنع ما و تشغيل المصنع، أو الاشراف على عملية الانتاج وتطويرها و حل المشكلات التي قد تطرأ فجأة، و قد يعملون في مجال التسويق و المبيعات، أو في وظيفة ادارية، أو في مصالح حكومية مسؤولة عن الصحة و الأمن البيئي و المهني، أو في المستشفيات و العيادات كأطباء أو مهندسين طبيين، أو في مكاتب قانونية خاصة ببراءات الاختراع المرتطبة بالعمليات الصناعية، أو كأعضاء هئية تدريس في جامعة ما.
حتى من عمل منهم في صناعة كيميائية تقليدية انتهى به المطاف إلى القيام بمهام مختلفة كثيرة.
ولكي نتفهم حجم التحديات التي يجب أن يتخطاها المهندس الكيميائي أثناء عمله دعنا نفترض أن كيميائي يعمل في قسم التطوير في شركة ما قام بتحضير منتج ذو قيمة عندما فاعل مادتين مع بعضهما بنسب معينة في درجة حرارة مرتفعة، و قد كلفتك الشركة بتصميم عملية صناعية لإنتاجه بناءًا على هذا التفاعل أي أن الأمر خرج من إطار المختبر و تحول إلى مشكلة هندسية أو إذا تحرينا الدقة إلى مئات المشكلات الهندسية وهي:
ما نوع المفاعل (الإناء المصمم لاحتواء التفاعل) الذي سيتم استخدامه ؟ مفاعل بتقليب مستمر؟ مفاعل أنبوبي بدون تقليب؟ كم يكون حجم المفاعل ؟ من أي مادة يجب أن يصنع ؟ هل يجب امداده بالحرارة ؟ إذا أجبنا بنعم فما مقدار الحرارة المطلوبة و كيف يتم امداده بالحرارة ؟ باستخدام سخانٍ كهربي داخل المفاعل أم خارجه ؟ أم عن طريق إمرار مائعٍ ساخن في أنابيب تسخين داخل المفاعل ؟ أم بتسخين المتفاعلات قبل دخولها للمفاعل ؟ هل يمد التفاعل نفسه بالحرارة ذاتياً (طارد للحرارة)، أي أن التسخين يكون ضرورياً عند بدء التفاعل فقط ؟ إذا أجبنا بنعم فهل من الممكن أن يخرج التفاعل عن السيطرة مسبباً انفجار المفاعل ؟ هل من الممكن استخدام معدات القياس لتجنب ذلك ؟ أي نوع من المعدات يجب أن يستخدم ؟ ثم ما هو مصدر المتفاعلات ؟ أنشتريها أم نقوم بتصنيعها ؟ بأي كميات من المفترض أن يتم ادخالها للمفاعل ؟
بعد انتهاء التفاعل يخرج خليط من نواتج التفاعل و المتفاعلات التي لم تستهلك في المفاعل، هل يجب فصل المتفاعلات عن النواتج و اعادة استخدامها مرة أخرى في المفاعل أم نقوم ببيع المنتج على هذه الحال ؟ إذا أردنا الفصل كيف سنقوم بذلك ؟ هل سنقوم بتسخين الخليط ثم تكثيف البخار المتكون الذي سيكون تركيز المادة الأكثر تطايراً به أكبر ؟ أم نضيف مادة أخرى تستخلص النواتج دون المتفاعلات ثم نقوم بفصل النواتج عن تلك المادة ميكانيكياً ؟ إذا كانت كل المواد في الحالة الغازية عند درجة حرارة التفاعل هل من الممكن تبريد الخليط حتى تتكثف النواتج دون المتفاعلات أو العكس ؟ و إذا كانت المواد في الحالة السائلة هل من الممكن تبريد الخليط حتى تتبلور النواتج و يتم فصلها على صورة بلورات صلبة ؟
إذا قمنا باختيار احدى الطرق السابقة للقيام بعملية الفصل أي المعدات سنحتاج ؟ ما حجمها ؟ من أي مادة يجب أن تصنع ؟ ما هي متطلبات التسخين و التبريد ؟ هل ستتم الاستعانة بأجهزة تحكم لضمان عدم خروج العملية عن السيطرة ؟ و هل تعمل هذه الأجهزة أوتوماتيكياً أم يدوياً ؟
كيف سيتم نقل المواد من و إلى المعدات ؟ اعتماداً على الجاذبية و فرق الارتفاع بين نقطتين ؟ أم باستخدام مضخات(pumps) و مراوح(blowers) و ضواغط(compressors) و سيور(conveyor belts) ؟ ما أنواعها ؟ و ما حجمها ؟ و من أي مادة صنعت الأنابيب التي سيتم نقل المواد بها ؟
أيكفي أن يتم تصميم العملية على خبرة سابقة و علم جيد بهذا التفاعل أم يجب أن نقوم بدراسات معملية اضافية ؟ ما الأشياء التي ستتم دراستها ؟ هل النتائج المعملية كافية للبدء في التنفيذ أم أنه يجب بناء نموذج مصغر أولاً لاختبار التصميم ؟ ما حجم هذا النموذج ؟ ما المشكلات التي قد تحدث أثناء تشغيل العملية ؟ و ما الحلول المقترحة لتجاوز هذه المشكلات ؟
هل سينتج عن العملية نفايات ؟ ما مقدارها ؟ هل هي ضارة بالبيئة إذا تم التخلص منها دون معالجة ؟ إذا كانت ضارة فكيف تتم معالجتها ؟ ما الذي يجب فعله لتقليل مخاطر التلوث ؟ أنعالج النفايات كيميائياً ؟ أم نضعها سائلة كانت أم صلبة في براميل و نغلقها باحكام و نتخلص منها في عرض البحر ؟
أنطلق الدخان و الأبخرة في الهواء عبر مداخن عالية ؟ أم نرسب الجزيئات الصلبة كهربياً من عوادم الغازات ؟ ما هي الوحدات التي من المفترض أن تعمل اوتوماتيكيا خلال العملية ؟ و كيف يمكن ذلك ؟
ثم كم سيكلف كل ذلك ؟ بكم سيباع المنتج ؟ و لمن سيباع ؟ كم ستجني من أرباحٍ سنوياً ؟ هل الأمر يستحق العناء ؟ وإذا كان مشروعاً ناجحاً حقاً فأين يجب بناء المصنع ؟
بعد أن تم بناء المصنع ما هي الطريقة المتبعة لتشغيله ؟ بعد ستة أشهر لِمَ لا تنطبق مواصفات المنتج مع نتائج المختبر ؟ هل حدث عطل بأحد المعدات أم أن أحد ظروف العملية تغير لسبب ما عن ما كان في المختبر ؟ كيف لنا أن نعلم ؟ ماذا يمكن عمله لحل هذه المشكلة ؟ هل من الضروري أن نقوم بإغلاق العملية للقيام بالتعديلات ؟ هل هو أمر خطير أم مجرد حوادث متتالية أن ينفجر المفاعل ثلاث مرات و تشب أربع حرائق خلال ستة أشهر ؟ كيف يمكننا أن نمنع حدوث ذلك ؟
يجب أن تكون هناك قائمة مدون بها كل ما هو متوقع من مشكلات يمكن أن تحدث، و كيف يمكن التصدي لها ؟ بعد أن تم تشغيل العملية بكفاءة عالية في يوم ما حدث أمر طارئ أدى إلى تغيير جذري في خصائص المنتج، كيف يمكن حل هذه المشكلة دون اعادة تصميم العملية ؟ و لماذا لم يتم وضع مشكلة كهذه في الحسبان ؟
جميع ما تم ذكره من تحديات هي في الحقيقة مجالات عمل المهندس الكيميائي والتي لا يمكن تصنيفها و وضعها ضمن فئة محددة، فهي تتضمن فروعاً مختلفة من العلوم كالفيزياء و الكيمياء و الأحياء و علوم البيئة و الطب و الرياضيات التطبيقية و الاستاتيكا و الاقتصاد و علوم الحاسب الآلي و الإدارة و علم تخزين و استرجاع المعلومات و البحث و التصميم و الإنشاء و التسويق و المبيعات و الإشراف على الإنتاج و إدارة الأعمال، الشيء الوحيد المشترك بين هذه العلوم هو أنك ستجد المهندس الكيميائي يجيدهم.
المصادر والمراجع
[1] Elementary Principles of Chemical Processes. By: Richard M. Felder, Ronald W. Rousseau, & Lisa G. Bullard. 3rd. edition, 2005, Wiley & Sons, Inc.
[2] Basic Principles and Calculations in Chemical Engineering. By David M. Himmelblau & James B. Riggs. 5th. edition.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق